فصل: تفسير الآية رقم (146):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (145):

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}
{قُلْ} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم. وقوله سبحانه: {لا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} إلخ كناية عن عدم الوجود، وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى، وتنبيه كما قيل على أن الأصل في الأشياء الحل، و{مُحَرَّمًا} صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني {فِيمَا أُوحِىَ} قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند الظرف، وليس المفعول الأول محذوفًا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنًا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلى {أُوحِىَ} أو ما أوحي إليّ من القرآن طعامًا محرمًا من المطاعم التي حرمتموها {على طَاعِمٍ} أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردًا على قولهم: {مُحَرَّمٌ على أزواجنا} [الأنعام: 139] وقوله تعالى: {يَطْعَمُهُ} في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه: {طَائِرٍ يَطِيرُ} [الأنعام: 38] قطعًا للمجاز. وقرئ {يَطْعَمُهُ} بالتشديد وكسر العين، والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى، والمراد بالطعم تناول الغذاء، وقد يستعمل طعم في الشراب أيضًا كما تقدم الكلام عليه، والمتبادر هنا الأول، وقد يراد به مطلق النفع، ومنه ما في حديث بدر «ما قتلنا أحدًا به طعم ما قتلنا إلا عجازًا طلعًا» أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به، وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدًا ولم أر من قال به، نعم قيل: المراد سائر أنواع التناولات من الأكل والشرب وغير ذلك، ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس، وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم: رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء {يَطْعَمُهُ} على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذٍ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه.
{إِلا أَن يَكُونَ} ذلك الطعام أو الشيء المحرم {مَيْتَةً} المراد بها ما لم يذبح ذبحًا شرعيًا فيتناول المنخنقة ونحوها. وقرأ ابن كثير وحمزة {تَكُونُ} بالتاء لتأنيث الخبر، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر {يَكُونَ مَيْتَةً} بالياء ورفع {مَيْتَةً} وأبو جعفر يشدد أيضًا على أن كان هي التامة {أَوْ دَمًا} عطف على {مَيْتَةً} أو على أن مع ما في حيزه. وقوله سبحانه: {مَّسْفُوحًا} أي مصبوبًا سائلًا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال.
وفي الحديث: «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال» وقد رخص في دم العروق بعد الذبح، وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء. وعن عكرمة أنه قال: لولا هذا القيد لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود.
{أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي اللحم كما قيل لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرًا. وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى، وقيل وهو خلاف الظاهر: الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور {رِجْسٌ} أي قذر أو خبيث مخبث {أَوْ فِسْقًا} عطف على {لَحْمَ خِنزِيرٍ} على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة {أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} صفة له موضحة. وأصل الإهلال رفع الصوت. والمراد الذبح على اسم الأصنام. وإنما سمي ذلك فسقًا لتوغله في الفسق. وجوز أن يكون {فسقًا} مفعولًا له لأهل وهو عطف على {يَكُونَ} و{بِهِ} قائم مقام الفاعل. والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في {يَكُونَ}. قال أبو حيان: وهذا إعراب متكلف جدًا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ {إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} بالرفع لأن ضمير {بِهِ} ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. اه. وعنى بذلك كما قال الحلبي أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام من التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه من كان ضرورة كقوله:
ترمى بكفي كان من أرمى البشر

أراد بكفي رجل كان إلخ.
وهذا كما حقق في موضعه رأي بعض، وأما غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقًا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة كما قال السفاقسي فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى.
{فَمَنِ اضطر} أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك {غَيْرَ بَاغٍ} أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين. وقال الحسن: أي غير متناول للذة؛ وقال مجاهد: غير باغ على إمام {وَلاَ عَادٍ} أي متجاوز قدر الضرورة {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك.
وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلًا له ولا حاجة إليه.
ونصب {غَيْرِ} على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلًا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقًا للمضطر الآخر. وأما الحالة الثانية: فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعًا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة. وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل.
واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والفسق الذي أهل لغير الله تعالى به، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرمًا مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعًا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له. فإن قلت: المستثنى ليس ميتة بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعًا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب: نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرمًا إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلًا وورد الإشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة (173) وسورة النحل (115) {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وإنما تفيد الحصر، وقال سبحانه في سورة المائدة (1): {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [المائدة: 3] وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد.
وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرمًا غير ما نص عليه فيها، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل: وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغًا عنى لا أجد شيئًا من المطاعم محرمًا في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرمًا فالمصدر المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة.
واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت قتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافًا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخًا. ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلًا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال: إنه وإن كان ثابتًا إلا أنه زال.
وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالًا لأنه معرفة وبعضهم قال لاتصال الاستثناء: إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من {مُحَرَّمًا} وفيه تكلف ظاهر، وقيل: التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة.
وأجيب أيضًا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالأخبار. وتعقبه الإمام أيضًا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز. وأجاب عن ذلك القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر هاهنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس حرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز.
وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية. أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله: أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس وقرأ {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ} الآية. وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيرهم بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت {قُل لا أَجِدُ} إلخ.
وأخرج عن ابن عباس قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه {قُل لا أَجِدُ} الآية، وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام. فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس؛ ثم قال: ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرًا من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما استخبثته العرب فهو حرام» وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال: «يعافه طبعي» ولم يكن ذلك سببًا لتحريمه. وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئًا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم. انتهى. ولا يخفى ما فيه.
واستدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما قال الله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ *إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه تنتفعوا به». واستدل الشافعية بقوله سبحانه: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} على نحاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور.

.تفسير الآية رقم (146):

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}
{وَعَلَى الذين هَادُواْ} أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والسدي، وعن ابن زيد أنه الإبل فقط، وقال الجبائي: يدخل فيه كل السباع والكلام والسنانير وما يصطاد بظفره، وعن القتبي والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرًا مجازًا. واستبعد ذلك الإمام، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حرامًا قبله. ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة {حَرَّمْنَا} وهذا كما قيل تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهما السلام حتى انتهى التحريم إلينا، وقال بعض المحققين: إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبًا عليهم. وقرأ الحسن {ظُفُرٍ} بكسر الظاء وسكون الفاء. وقرأ أبو السماك بكسرهما. وقرئ كما قال أبو البقاء {ظُفُرٍ} بضم الظاء وسكون الفاء.
{وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} لا لحومهما فإنها باقية على الحل، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى، وقيل: هو عام استثني منه ما سيأتي. و{مِنْ البقر} متعلق بحرمنا بعده وكان يكفي حينئذ أن يقال: الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال: أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم، وجوز أبو البقاء وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر أن {مِنْ البقر} عطف على {كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} على معنى وبعض البقر وجعل {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} تبيينًا للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه.
{إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} أي ما علق بظهورهما. والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم. وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحمًا يحنث بشحم البطن فقط. وخالفه في ذلك صاحباه فقالا يحنث بشحم الظهر أيضًا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار. وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال. وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحمًا وبائعه يسمى لحامًا لا شحامًا.
والاتصال وإن كان أصلًا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى: {أَوِ الحوايا} فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو عنى المباعر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والإمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة. وللقائل بالاتصال أن يقول: العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر الحوايا بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه عنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء. وجوز غير واحد أن يكون العطف على {ظُهُورُهُمَا} وأن يكون على {شُحُومَهُمَا} وحينئذ يكون ما ذكر محرمًا وإليه ذهب بعض السلف. وهو يعطف قوله تعالى: {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص، وقيل: هو المخ ولا يقول أحد أنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضًا. والحوايا قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة ألفًا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا؛ وقيل: جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضًا وإعلاله كما علمت، وقيل: جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصل حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام ألفًا فصار حوايا. وجوز الفارسي أن يكون جمعًا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضًا. و{أَوْ} عنى الواو. وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 135] وقال الزجاج: هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا. و{أَوْ} بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت: لا تطع زيدًا وعمرًا فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معًا فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت: لا تطع زيدًا أو عمرًا أو خالدًا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدًا منهم ولا تطع الجماعة، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر جالسة واحد منهم بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدًا منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب.
واختاره العلامة الثاني وقال: الوجه أن يقال إن كلمة {أَوْ} في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل. وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال: وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزًا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط. وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في {أَوْ} هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثنى منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم و{أَوْ} على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع.
{ذلك} إشارة إلى الجزاء أو التحريم فهو على الأول: نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده. وعلى الثاني: على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم {جزيناهم} وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره. وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارًا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والجلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشارًا به إلى المصدر غير متبوع به. وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه {بِبَغْيِهِمْ} أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. وكانوا كلما أتوا عصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم. وقيل: المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن إبراهيم في تفسيره أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضًا ولا بعد في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم.
{وِإِنَّا لصادقون} في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي.
وعد منها واقتصر عليه بعضهم الوعد والوعيد. وقوى الإمام بهذه الآية «ما ذهب إليه الإمام مالك وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين، الأول: أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرًا. والثاني: أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال: إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذًا وجب حمله على المخلب. والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين، الأول: إفادة التركيب الحصر لغة، والثاني: أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصًا باليهود وحينئذ فما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولًا» فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر.